في عالم يتغيّر بسرعة، وتُقاس فيه القيمة بالإنتاج والإنجاز، يُطرح سؤال جوهري بصوت خافت غالبًا:
هل هذا ما أحب أن أفعله حقًا؟ هل أعيش من مكاني الحقيقي؟

يبحث كثيرون عن الشغف وكأنه كنز مفقود، يتمنّون لو يسقط عليهم فجأة، أو يُكتَب لهم في حلم.
لكن الحقيقة أن الشغف لا يُكتشف بصدفة، بل يُبنى بالفضول، التجربة، والإنصات للنفس.
وهو ليس مجرد هواية تُسعدك، بل طاقة خفية، حين تتصل بها، يتحوّل الجهد إلى لذة، والعقبات إلى تحديات تستحق.

في هذا المقال، ستتعلم:

  • كيف تفرّق بين “ما تحبه” و”ما تتقنه” و”ما تحتاجه”
  • لماذا الشغف لا يكون دائمًا واضحًا منذ البداية
  • كيف تبدأ رحلتك لاكتشافه حتى في حياة مزدحمة
  • وكيف تترجمه إلى مسار عملي تدريجي دون تهوّر أو تسرّع

١.الشغف ليس “لحظة إلهام” بل “رحلة بحث

هناك فكرة خاطئة تقول إن الشغف يظهر فجأة، كشرارة مفاجئة تغيّر كل شيء.
لكن الواقع مختلف: الشغف لا يظهر، بل يتكشّف. وكلما جرّبت أكثر، اقتربت أكثر.

لا أحد يولد وهو يعرف ما يحب فعله تمامًا، بل يكتشفه وهو يمشي، ويخطئ، ويعيد المحاولة.
ما يبدو بسيطًا الآن (هواية، فضول، اهتمام متكرر) قد يتحوّل لاحقًا إلى مشروع حياة.

“الشغف لا يُولد واضحًا… بل يُبنى حين تصغي لما يجذبك باستمرار.”

نقطة عملية:

  • أجب على هذا السؤال:
    ما الشيء الذي حين أفعله أنسى الوقت؟
    ثم دوّن قائمة بالأشياء التي فعلتها في حياتك وشعرت بالحماسة بعدها، حتى لو لم تكن “مفيدة” بالمعنى التقليدي.
    تلك القائمة هي أول خيوط شغفك.

٢.لا تربط شغفك بالدخل في البداية

كثير من الناس يفشلون في اكتشاف شغفهم لأنهم يسألون من البداية:
وهل سأكسب منه؟
رغم أن هذا السؤال منطقي، إلا أنه يُقتل البذرة قبل أن تنمو.

الشغف في بدايته ليس مسؤولًا عن أن “يُطعِمك”، بل عن أن “يُشعلك“.
ومع الوقت، يمكن تحويله إلى مسار مالي، لكن بشرط أن تمنحه أولًا مساحة للاستكشاف دون ضغط.

“ما تحبه قد لا يُدخلك المال الآن… لكنه قد يدخلك المعنى، والثقة، والمهارة — وكلها تؤدي لاحقًا إلى المال.”

نقطة عملية:
خصص وقتًا أسبوعيًا ثابتًا لتجربة شيء جديد يهمك — دون التفكير في العائد.
اكتب يومياتك بعد كل تجربة: هل تحمست؟ هل تحسّنت؟ هل راودك شعور داخلي بأنك “في المكان الصحيح”؟
هكذا يبدأ الشغف الحقيقي في التنفس.

٣.الشغف يحتاج إلى مهارة حتى يصبح قوة حقيقية

قد تحب الكتابة، التصميم، التحدث، البرمجة، أو التفاعل مع الناس… لكن الحب وحده لا يكفي.
المهارة تصنع من الشغف أداة، والتكرار يصقله إلى سلاح.

إذا لم تطوّر مهارتك، ستتوقف عند مرحلة “الهواية”، وتُصاب بالإحباط لأنك لا تشعر أنك تتقدم.
أما إذا بدأت بالتدريب، التعلم، الممارسة المنتظمة — سيتحوّل الشغف إلى مسار ناضج قابل للنمو.

“الشغف بدون تدريب… طاقة بلا اتجاه.”

نقطة عملية:

  • اختر عنصرًا واحدًا من اهتماماتك وابدأ تعلمه بعمق: دورة، كتاب، مرشد، ممارسة يومية
  • حدّد لنفسك تحديًا بسيطًا (مقال أسبوعي، مشروع تصميم، جلسة تدريبية تطوعية…)
    التقدّم الصغير يولّد الثقة، والثقة تعمّق الشغف.

٤.لا تبحث عن “شغفك الوحيد” بل عن “النسخة التي تريد أن تكونها

كثير من الناس يعيشون تحت ضغط أن يجدوا “ذلك الشيء الواحد” الذي خُلقوا من أجله.
لكن الحقيقة أن بعض الأشخاص يملكون شغفًا متعدّدًا، أو يتغيّر شغفهم مع الزمن.

السؤال الأهم ليس “ما هو شغفي؟” بل “من أريد أن أكون؟
حين تجيب عن ذلك، تبدأ ببناء أسلوب حياة يحتوي على أكثر من شغف، ويقودك إلى نوع من الوجود المتكامل.

“الشغف ليس نقطة نهاية… بل هو بوصلة تقودك إلى ذاتك.”

نقطة عملية:
ارسم خارطة:

  • في المنتصف: نسختي المثالية
  • وحولها: المهارات، الطباع، الأنشطة، والقيم التي تريد تجسيدها
    ثم انظر: ما الأنشطة اليومية التي تقرّبك من هذه النسخة؟
    هذه هي الأشياء التي تستحق طاقتك — سواء كانت عملًا، هواية، أو مشروعًا.

٥.الشغف الحقيقي لا يستهلكك… بل يمدّك بالطاقة

هناك فرق كبير بين العمل المجهِد والعمل المُتعب.
الشغف قد يرهقك جسديًا، لكنه لا يستنزفك داخليًا.
تشعر أنك أفرغت طاقتك في شيء يستحق، وتنام وفي داخلك رضا، لا فراغ.

إنه النوع من الجهد الذي تتمنّى لو طالت ساعاته، لأنك تشعر فيه بالمعنى، بالتدفق، بالانسجام بين الداخل والخارج.

“حين تعمل فيما تحب… يصبح الجهد عبادة، وليس عبئًا.”

نقطة عملية:
راقب شعورك بعد ساعات العمل أو النشاط الذي تمارسه:

  • هل تشعر بالإشباع؟ أم بالاستنزاف؟
  • هل تتشوّق للعودة إليه؟ أم تتمنّى الهروب منه؟
    تلك المؤشرات العاطفية هي أقوى من كل التحليلات العقلية في توجيهك نحو شغفك.

الشغف ليس رفاهية… بل ضرورة للبقاء الحقيقي

في زمن السرعة، الضجيج، والمقارنات، من السهل أن تضيّع صوتك الداخلي.
لكن من يستمع جيدًا، ويخوض الرحلة نحو ذاته، يجد أن الشغف ليس رفاهية…
بل هو الطريقة الوحيدة لتعيش حياة تشبهك.

ولأن الشغف لا يظهر دفعة واحدة، بل يُبنى بالتجربة والتكرار،
فكل خطوة صغيرة اليوم — مشروع بسيط، وقت مخصص، تدوينة صادقة، تواصل مع شخص ملهم —
هي لبنة في بناء حياة مليئة بالمعنى، لا فقط بالمهمّات.

ابدأ الآن، ولو دون وضوح كامل.
فالشغف لا ينتظر أن تكون جاهزًا… بل ينتظر أن تبدأ.

 

Shares: